الثلاثاء، 17 أغسطس 2010

تلك الروائح

1
نجلس أنا وأمي في العربة…
نستقلها إلى المَشفى أو إلى المصحّ أو إلى حيث يتجمّد الزمان ثم ينام طويلا ويستيقظ فجأة ليقهقه… هذا ما تركه لي جدّ جدّ جدّي المنحدر من جبل لبنان، ذلك الطرف الذي يلامس البحر ولا يشرب سوى خديعة شكله وهول رطوبته… ها نحن قد ارتدينا أجمل ملابسنا الأوروبية (في حالتي) والأمريكية (في حالة أمي)؛ أما أنا فتعطّرتُ لأوّل مرة بعطر فرنسيّ جميل تلقيته هدية من أغلى ما لا أملك –لا أحد يصدق أنني أكره العطور الفرنسية وأُفضّل الإيطالية- أما أمي فقد ارتدت هي أيضًا أجمل ما لديها… أجمل ما أحضرت معها من الشام قبل مئات السنين.. تلك الحاجيات وشتلة الياسمين التي تمتدّ وتمتدّ وتكاد تبتلع لنا “أرض الديار”، حتى بحرة الماء التي تنتظر جدتي في وسط الدار كي تعود من الموت لتسقيها…
اغتالها الياسمين.. تتعطر أمي بخلاصة الياسمين من قارورة نحاسية تناقلتها البنات ولا ينتهي السّائل الشفاف الذي بداخلها كما أنه لا يتعكّر أو يكتسب شكلاً غمائميًا. نخمد أنا وأمي حرائق الحرّ المُهلك في غابة ما تبقى لنا.. فتمتصّ ملابسنا الأنيقة وملامحنا المتوسّلة إلى تصنيف.. كلّ الرماد ومخلفاته وكل ما لم يحترق من جزيئات عصية.. نخمد الحرائق ونتّشح بسوادها.. ها نحن نكتسب أخيرًا تصنيفًا ما… فكلّ شيء له ثمن كما يقول الكليشيه الممجوج والمبتذل… وثمن اكتساب ملامح متناغمة مع المحيط هو الغوص في مستنقع لا تذوب حرائقه ولا تفنى..
نجلس أنا وأمي في العربة…
وتسأل نفسها او تسألني.. في نفس النقطة التي أتوقع أن تفعل هذا:
أوووف… ما هذه الروائح الكريهة؟

2
ما هذه الروائح الكريهة؟
هل تسألينني أنا؟ أم تسألين نفسك؟ وفي حال كنت تسألينني أنا بصفتي أباك الجديد الذي يعرف كافة الأجابات والتفسيرات لكلّ الأسئلة والمعضلات ودوافع الشرّ والشرذمة والقتل والقهر والبؤس والشقاء و.. و.. كيف أقولها كي لا أبدو كالمُولولات في الأفلام المصرية.. عدم تقسيم السّعادة بشكل متوازن. بمعنى نزع كل شيء من شخص وإلقاؤه وحيدًا في مكان كذلك الذي نحن في طريقنا إليه الآن.. هل تفهمين من أين تنبع أو تنبثق أو تتمَوْسق تلك الروائح الغريبة التي هي خليط من أعشاب محروقة وجثث متحللة بسرعة مذهلة؟ هل تريدنني أن أجيبك بطريقتي؟ بطريقة الأب المستحدث.. وإن كنت تسألينني فهذا يعني أنك تتقبلين كل شيء فيّ وعني.. تتقبلينني وهذا خيارك.. وإلا فلا تسأليني ولنَمْضِ سوية صامتيْن في طريقنا لننبش في أكوام ما أبقاه لنا أبونا الحقيقيّ من تركة نتنة..
خوفي من العمر والتجاعيد على وجهي ومن المرض والعقم والعجز والوحدة والفقر والعوز والألم والنسيان والتذكّر المفرط وخوفي من الحقيقة ومخلفاتها وخوفي من الغرباء والدين والمُنقبات والشرطة والجيش والشاباك وخوفي من ارتطام سيارتي بشاحنة واختفائي تحتها
إنها رائحة هذه الكلاب السّائبة التي ماتت عطشًا في هذه الجهنم وتركت أجسادها مُلقاة على الأرصفة، منفوخة وتنتفخ كلّ يوم أكثر وأكثر كلما مررت قربها.. لا ترحم الشمس أبدانها، تنهال عليها من دون حساب تنخر في جلدها وتكوّن ثقبًا في أسفل البطن يتسع ويتسع ويتسع كلما مررت من هنا ويفرز دماءً متخثرة وعصاراتِ أحشاء ومكوّناتٍ أكثر وأكثر مما أعرف… وإنها رائحة العرق البشريّ المتراكم فوق أتربة الحيرة؛ أنهار من العرق تتدفق الآن من وراء الحدود نحو حقول القش الميتة التي حولنا.. أعرف أنك قد تقولين لي إنّ ثمة مزيلات للعرق (ديودورانت) وإنّ النساء غير مُجبرات على ارتداء الأسود في هذا الحرّ الفظيع.. وأنه في أيامكم لم يكن هنالك حجاب.. وأنك تشعرين بأنّ هذا ليس زمنك/زمننا وأنّ شيئا ما قام بخيانتك.. ولكن هذه الرائحة قد تكون لأشخاص قُتلوا وتم إخفاء جثثهم في الآبار.. ولم يلحظ أحد غيابهم… تلاشوا هكذا وبقيت رائحتهم.. إنها الرائحة الكريهة لبلادنا.. وبلاد الآخرين.

3
نمُرُّ من نفس النقطة عائديْن مُغبرّيْن برماد الخسائر.
ما هذه الروائح الكريهة؟
إن كنت تُصرِّين على أنني أبوكِ.. ومعنى هذا أنك تتقبلين كل شيء مني.. تتقبلينني كما أنا.. فاقول لك إذًا: إنّ تلك الروائح هي روائح خوفي.. خوفي من العمر والتجاعيد على وجهي ومن المرض والعقم والعجز والوحدة والفقر والعوز والألم والنسيان والتذكّر المفرط وخوفي من الحقيقة ومخلفاتها وخوفي من الغرباء والدين والمُنقبات والشرطة والجيش والشاباك وخوفي من ارتطام سيارتي بشاحنة واختفائي تحتها.. خوفي من الطريق وانفجار الإطار والعمر والوحدة والفقر والعوز والألم والنسيان في وجهي.. خوفي من الحاجة والاحتياج. خوفي من احتياجك لي واحتياجي لك.. أو عدم احتياجي.. أو عدم احتياجك..
إفتحي قارورة الياسمين الدمشقيّ يا أمي
..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق