الثلاثاء، 30 مارس 2010

بانتظار متتياهو

1
مرة أخرى أصل قبل الوقت..للمرة المليون في هذا القرن الذي يقطر علامات استفهام عجائبية ...أجلس على بنك يميز تلك المنطقة السعيدة الى درجة لا تطاق من مدينة تل أبيب..ذلك المركز القديم الذي أصبح شمالا مرة أخرى حين هبت ريح البرجوازية عليه فجأة مع بداية تبلور مركز جديد أخذ يزحف الى الجنوب الى تلك "السلطة" الإنسانية حين أقطن..أو هكذا يخيل لي أحيانا..فلا الشمال العائد كان مرة شمالا ولا الجنوب حين أقطن هو بحق المكان الذي أقطن فيه أو حيث يتواجد بيتي...

2
إصل دائما قبل الوقت ، ولا يطالني من هذا سوى ذاك التمشكل مع المكان..بمعنى كل تلك الترهات حول –من أنا؟ وكيف وصلت الى هنا وما هذا المكان وإحداثياته مني .وبلا بلا بلا وكأن مؤخرة الإنسانية ستهتز الآن لتوها لذاك المشهد الخارج من جريمة وصولي الى مكان ما.. كان قائما بشكله المعطى قبل برهة أو سنوات أو قبل ذاك العام النكبوي بكثير..أتوه عن قصد لأمرر الدقائق المستعارة الطويلة..أنظر كل دقيقة وربع بالساعة..الشوارع ضيقة..حميمة بعض الشيء..وهنالك أطفال ولنقل صبية يلهون وسط الشارع بألواحهم المثبتة على عجلات من دون الخوف من أن تدهسهم شاحنة مهرولة أو باص..ليموتوا جميعا..موتا برجوازيا بامتياز..وهل تلطم الأمهات البرجوازيات من أصول آرية على موت أولادهن..أم كيف؟ يعرف هؤلاء الصبية سرا لا أعرفه عن المكان...

3
تماما كما هو الخوف من أن لا تكون الأشياء والأسماء والأماكن في مكانها الواضح المحدد المؤول بدقة متناهية، بدقة هذا الخوف ..بحدته يتواجد هذا المكان بحدوده بين شارع ديزنجوف من الغرب ويهوشواع بن نون من الشرق فلا الشمال شمال بحق ولا الجنوب يعترف بذلك..أجلس على مقعد "بانك" من خشب أرزة سرقت من لبنان.. أنا الرجل الوحيد الذي يتسكع في الساعة السابعة والنصف من دون كلب يبرر وجوده واختياره..أو عدم اختيار ضباط الإس. إس لأبي وأمي كي يقتلا هم واحتمالاتي في ماونتهاوزن مثلا..

4
تماما كما هو الخوف من أن أشعر بالغربة للحظة وتفوح رائحة فضيحتي نواحي أعدائي المنتظرين..ليفتحا دفق ينابيع اللوم ثم يمضون الى مضاجعة كل من اشتهي من منمنمات...أتوجه الى مخزن كبير للمنتجات العضوية التي عادة ما تكون رائحة الضراط الناتجة عن استهلاكها عضوية جدا هي الأخرى..ولنقل ممعنة في عضويتها..أتجول في المتجر..أتقمص دور سيدة الصالونات التي قضت حياتها بين الخلاصات العضوية الطاهرة للأشياء..وتلك التي سقطت بين أذرع منظف خراء الخيول في الإسطبل بين اكوام التبن العضوي ..حينما ناكها يومها دون كلل بأيره العظيم وكأن يوم القيامة يقترب هادرا..وانا اقترب من الصندوق..لا منتجات عضوية لدي سوى ما بدأ يتمركز قرب شرجي منتظرا منافع جميلة بتصميم حداثي حاد لكي يسلمها نفسه العزيزة..أختار كستناء مقشرة محفوظة في أكياس محكمة الإغلاق..أحب الكستناء بكافة أشكالها ..وها أنا التهمها بنسختها العضوية المدينية كعصفور الحقول البعيدة القريبة عند ذاك المقعد بانتظار ماتتياهو..

5
مع أنني سرت ماشيا من البورصة الى هذا المفرق الا انني وصلت قبل الوقت وأفرغت كيسا من الكستناء العضوية في جوفي وبقي كيسا ثانيا.. أفتح سحاب حقيبتي لأدس داخلها الكيس الباقي ..اقفل السحاب بسرعة.. أكاد أمزقه ..لا أريد أن أصادف ورقة ما من تلك الأكوام في الداخل ..ورق الخوف والاوجاع..والقلق..فلأرتبها من جديد القلق والاوجاع والخوف...مما أخاف؟؟على بلاطة كما يقولون! هذا ما اسأله لنفسي قبل دقائق من وصول متتياهو..مما أخاف؟ وكيف سرق مربع يهوشواع بن نون هذا تلك السكينة المجنونة من بين فكي الخوف المحيط..السكينة المسروقة..رجال بكلاب جميلة، نساء يمارسن رياضة العبث، صبية لا يهابون من الشاحنة الهادرة..رجل خرج لإحتساء المكياتو بعد أن خبأ رأس زوجته في ثلاجة ! مما أخاف؟ من احتمال جريمة لا اقدر على منعها..من ذنب جريمة لم أرتكبها بعد! من أن فتاة –آسف ربما امرأة- تجلس الآن في سرير لعنة المصير في مشفى كسب الوقت..ذاك الوقت الذي يجتر نهايته كل مرة من جديد..وهي تعرف أننا نعرف أنها تعرف ..أن لا جدوى...أأخاف من نبرة الأم التي تخجل أن يظهر بين أسطرها ولو حتى إيحاء متواضع وغير ملزم بأنها ستموت من قسوة الوحدة واختفاء ناسها....وأنا جالس التهم الكستناء العضوية المخاطية ..تلك التي لا تفيد بشيء..أأخاف من نظرة عتاب ثاقبة لولد لم يتجاوز الربيعين؟!..
6
أسلم متتياهو الذي تتشكل حدود حياته بين شارع بن يهودا وايفن جفيرول (وهو كالكثيرين من قاطني المدينة لا يعترفون بشارع اليركون المحاذي حيث السفارات والفنادق وكورنيش الشاطيء كونها مناطق السياح وأهل الضواحي والأطراف)أسلم متتياهو اللطيف والدائم الابتسام كتبي التي سيسلمها بدوره لصديق في القاهرة ..وأوصيه الا يتحدث هو ورفاقه العبرية في الأماكن العامة من القاهرة. وخاصة في فضاء سواقي الأجرة الثرثارين..وأحاول ألا أفكر بغرائبية الموقف: كاتب فلسطيني يسلم شاعر إسرائيلي مؤرخ جديد للنكبة كتب ليسلمها لكاتب وناقد مصري في القاهرة قرب محلة يهوشواع بن نون..
متتياهو ودود جدا ..نتفق على وجوب اللقاء الأكثر تكرارا وفاعلية..بت أعرف شخصا حقيقيا-لحم ودم- في مربع الشوارع هذا...
7
ينطلق متتياهو بدراجته كالنسر في الفضاء الأسود..أمشي بشارع ديزنجوف نحو الجنوب ، أشعر بسعادة لا مبرر لها..سعادة غبية ولكنها ماثلة لا يمكن تبديل وقعها ، لم يحدث ما يستدعي ذلك ولم نستعر أنا ومتتياهو حيزا معتما بين الشجيرات البولونية لتبادل شهوة الإنتلكت. أمشي...رائحة الأشجار في هذا الوقت من السنة تذكر برائحة المني المنفلت لتوه...أصعد باص 18..ماذا لو أن هذه المرأة المؤكسدة الشعر نامت مع ثلاثين زبون قبل أن تصعد. وماذا لو ان الشاب المتأنق ابن العشرين هذا مارس الجنس لأول مرة بجيل التاسعة برضاه أو عنوة .ماذا لو فجر أحدهم نفسه في هذا الصهريج المكتنز اللحم..ماذا لو أقتربت ساعة الأربعين وكل من حولي لم يبلغوا الثلاثين بعد وأنا ماض بإحتساب ناتج الفرق..ماذا لو التقطت فيروسا سمجا من هذه الحافلة المكتظة الآن..ماذا ها..ماذا؟؟ الهدف الأن: أن أخسر المزيد من الشحوم حول بطني..
تدندن فتاة يافوية تجلس بجانبي: خدني معك على درب بعيدة..مطرح ما كنا ولاد زغار..


آذار 2010

الثلاثاء، 9 مارس 2010

في الوقت المسروق

1
لا شك انها بداية الفصل الأخير. ذلك الوقت المسروق.هذا ما أقوله لنفسي. لا أجرؤ أن أقول هذه الكلمات لغيري.غيري ممن هم خارج النص. هكذا يشعر المرء عندما يخط الفصل الأخير من كتاب. أنها تلك الغصة الشجية وانت تخترق عباب أماكن الطفولة والغلمانية .. غلمانية : هي كلمة اخترعتها لتوي ولتنتحر إدارات مجامع اللغة العربية جماعيا من ناحيتي. غلمانية -هي عندما تشعر بعد فشلك الرنان ان تصبح صبيا يستوفي كافة معايير وشروط المجتمع الصبياني القاسي والفاشي.. أنك شيء آخر . عليك أن تحافظ عليه .ويجب أن تقاتل بشراسة على أن تكون ذلك الشيء غير المعرف.بمعنى أن تدفع ثمن حريتك بدقة متناهية. وأن تصبح على استعداد لمواجهة كل شيء.كل شيء. كي لا تصبح شبحا قنوعا كغيرك. ثمن ما حتى النخاع. حتى الوريد. حتى الموت.يا إلهي..ما هذا النص الملتبس...قد تكون الحقيقة أسهل من هذا.. يا غلام...
2
قد تكون الحقيقة أسهل من هذا.. يا غلام...ولكن أثر الوقت المسروق. المقتطع. الضائع. لا زال يلازمني . أمشي وزمن ليس من حقي يركب على أكتافي. يلعق ظلال السواد تحت عيوني. أقل أمي الى حي المطران المطل على ..الطريق الى هناك. الى الجنوب..جنين. القدس. المطار .الأردن .تل ابيب. ..أدخل الى الحي رجلا آخرا ليس ككل مرة . أحاول ان ارقب ذاك الصبي اللاهي برمال تشييد الشارع وهو يسألها تلك الرمال. هل سيتغير شيء؟ . هل ستبقى الحياة هكذا. أم انها قد تقترب من حكاية "حمى ليلة السبت" الذي شاهدته خلسة في السبوع الماضي في سينما الناصرة. وها أن آدميا آخرا يدخل بعربته إلى حقل ألغام. لا ترحم به سخرية السنين أحد. آدميا يكاد يختنق من كم الأسرار الذي يحمل. حتى أصبح الخارج عبارة عن صيغة سينوغرافية لا تتفاعل حتى مع خطاياها . بينما الداخل مستودع للأسرار . مستودع إختياري ضاق بما فيه .أعبر شوارع بريئة من مخططاتي القديمة . أعود الى منطقة ديانا عبر العمارة . تحمل هذه الطريق على الأقل ملامح كوسموبوليتية قد ترحمني من كرسي الإعتراف . المداهم . المزعج. اللحوح . هذا ..نص ملتبس..ومع ذلك فقد تكون الحقيقة..أعطر مما تظن..يا رجل..



3
ومع ذلك فقد تكون الحقيقة..أعطر مما تظن..يا رجل..يا مجمع الأسرار المجوسية. في ديانا والنمساوي والعين في تلك الطريق من المدرسة المعمدانية عبر الكراج الى البيت ..في يوم خماسيني وسط أذار ..رائحة كعك العيد المتمازجة مع رائحة نوار كل شيء واللوز الطري بالملح . وجدتي ماري التي تنهر علي كي لا أفرط بتناول اللوز حتى لا ينفجر بطني وتتطاير أحشائي المخلوطة بأذكى دنيا..ثم تجبرني على شرب الحليب وهي تعرف أنني أكرهه وأنني سأسكبه في حوض القرنفل وأعبئ معدتي باللوز والفواكة الربيعية غير الناضجة والتي تنزف حامضا وملحا ..لقد إخترت الحامض والملح ومخاطر المغص والإنفجارات المعوية وفضلته على الحليب وفوائده المطلقة ...وتلك الأغشية الكريهة التي تطفوا بوقاحة على سطح السائل الأبيض العذب.لم اشرب حليبا بعدها في حياتي.لقد اخترت الوجع إذا..وها انا محمل بالأسرار. اتردد على ذات الأماكن التي لفظتني. بإختياري. وأنا مستودع متنقل من الأسرار. يتحرك بتثاقل في ذاك الوقت المسروق من الفصل الأخير . في ذات الوقت المسروق. وفي ذات الوقت المسروق أوصل أمي الى المغارة. حيث تبشرت العذراء بأنها عذراء. وسكنت البراءة بين شقوق الجدران المتآكلة منذ ذلك الوقت. تصلي أمي . ثم تعود الى البيت. نجلس أمام التلفاز . نمضغ الخبز والزيت واللبنة وقطع الأفوكادو غير الناضجة. أوجه نظري نحو اليمين متمردا على سحر الليل.وأكاد أقول لها. أين جميع هؤلاء. لقد تبقينا لوحدنا في هذا البيت الكبير .أنا وأنت ..آه والقطط. كيف حدث هذا وأين أخطأنا. إن نصك ملتبس . والحقيقة مغايرة إذا ما امتحناها من جميع الزوايا..يا ولد..هيا نصلي..

4
والحقيقة مغايرة إذا ما امتحناها من جميع الزوايا..يا ولدي..يقف ولدي . ينتظر من وراء القضبان الخضراء..تتجمع حواسه ثم تلتف حول تلك الأحصنة الدائرة فوق نفسها..توقفي ايتها الحيوانات الجميلة ..توقفي..نصعد الكاروسيلا ، أجلسه على اجمل حصان في العالم وأمسكه كالحقيقة من جميع الزوايا ..ستتغير حياة ابني بعد قليل.. تتحرك الكاروسيلا..تنطلق موسيقى عذبة تميل الى الحزن..(لماذا ترتبط لعبة الكاروسيلا دائما بدراماتيكية المواقف)..يدور الدولاب الأفقي بحركة بطيئة ، تهبط على اكتافي أطنان الحيرة، وانظمة الوقت المسروق، وكل ما أعرف من أسرار ..وأعرف..يصرخ مخرج سينمائي من بعيد..من خلف الأسلاك.. ..كاميرا 2. ممتاز.تمسكوا بالحقيقة المتاحة..تمسكوا بشدة ..تمسكوا أكثر..يا أحبائي...

اذار2010