الأحد، 5 ديسمبر 2010

صندوق المرضى

1
كانت أمي تصحبني كل مرة من جديد الى صندوق المرضى في ديانا في الشارع الذي اكتشفت لاحقا أن أسمه "الوادي الجواني" ...(لا أعرف من أطلق هذا الأسم عليه) أما رائحة الكعك بسمسم عند مطلع الدرج فكانت كأنها تبكي على "العرب المتدحرجين من الأندلس"...
2
كانت أمي تصحبني الى صندوق المرضى في ديانا كل مرة من جديد ، كنا ندخل هناك متجاوزين رائحة الكعك الأنف الذكر ورائحة الزعتر الغريب ...لم أفهم مرة لماذا يختلف الزعتر الذي يباع مع الكعكة الحلقية المسمسمة عن ذاك المتوفر في البيت (كنت مدمنا على الزعتر والبطاطا المقلية)..فزعتر صندوق المرضى دقيق وناعم جدا ومليء بالملح ولونه بني فاتح أشبه بالخراء...
3
كانت أمي تصحبني الى صندوق المرضى في ديانا كل مرة من جديد، مع أننا كنا نخرج من هناك دون إجابة ...كل مرة مع ذات الإجابة المعدومة أنفاسها ...كنت اتلوى بالبيت من أوجاع البطن والخاصرة والصدر ثم اشق الطريق من بيتنا في حي اسبنيولي القريب الى ديانا ونصعد نفس درجات السمسم والزعتر ثم أشاهد الممرضة المخيفة بنظارات كعب القنينة وأسأل نفسي لماذا أعيش ؟ ثم أتذكر أن ثمة حلقة معادة من "حارة أبو عواد" بطولة نجمتي المفضلة آنذاك "عبير عيسى" ... مع أننا كنا نخرج من هناك دون إجابة..وهذا ما يسمونه في قواميس أيامنا هذه ...العجز...وفي تلك الأيام بداية "الكفر"..
4
العجز وابو عواد وعبير عيسى وحمام الهنا و"بربار نحماد" و"بيت فيستوك"...عن أي عجز أتحدث ..كنت أصاب بالحمى* والآلام المبرحة كل أسبوعين ونصف وكنت استيقظ باكرا مع الوجع فيقرر والداي انني سأبقى في البيت ذلك اليوم أيضا..ولم يكونوا بحاجة لكثير من المبررات لذلك...فقد كنت أتوجع بحق..كنت أتناول الحليب وقرشلة حماد ثم أتقيأهما مجبولين ببعض ثم أقضم خبزا عربيا وجبنة صفراء وأتقيأهما هم أيضا ثم ينتهي كل شيء عند حافة الزيت والزعتر والخبز الإفرنجي المحمص...ثم تلك النزهة اليومية مع الكلب المتخيل الى صندوق المرضى حيث السمسم والزعتر والممرضة المرعبة ... مع أننا كنا نخرج من هناك دون إجابة...عن أي عجز أتحدث..
5
مع أنني كنت أكره المدرسة كرها أسودا لا زال يطاردني في الأحلام حتى الآن... إلا أن الشعور بأنني في عز الظهيرة كنت أطارد مع أمي ذلك الكائن الذي يدعى "لا إجابة" شكل جانبا من منظومة مخاوفي المتشابكة ..قرب سريري لا يوجد أولاد فهم في المدرسة..في نزلة إدمون شحادة لا يوجد أولاد لأنهم في المدرسة في بولس السادس لا أولاد فهم في المدرسة ..في الوادي الجواني لا أولاد لأنهم وراء أسوار المدرسة الإعدادية الجماهيرية الدمقراطية على أطراف الشارع..فهم في المدرسة وانت لا ..ولكنك تكره المدرسة تكرها كره "العمى" وتنتظر أن تكبر وتصبح كاتبا مشهورا يعيش في المدينة الكبرى ويضاجع كل شيء حوله ويسافر ويسكر ويسهر ويلبس ويأكل السوشي والتاباس ويعرف الفرق بين البيسترو والبراسيري ...إذا لماذا هذا الشعور الجارف بالعجز...أكره الكحول أيضا...

6
العجز..وما هو العجز ...أهو ذلك الشعور بالإقصاء...جميع الأولاد بالمدرسة وأنا عند درج السمسم والزعتر مع أنني أكره المدرسة...أم هو ذلك الشعور بالخيبة من العيش ..بمعنى آخر عندما كنا نخرج من هناك دون إجابة...
7
صرت اصطحب امي كل ظهيرة أحد الى صندوق المرضى ذاته بعد مئة سنة بعد أن أصبح الباب كهربائيا ..غاب بائع الكعك بسمسم عن دوامه الزعتري اليوم..يوم قائظ في قلب الشتاء... انتظر المطر في عربتي الفارهة ..أراقب عبر الزجاج... يدخل الناس الذين غادرتهم ثم يعودون بعدها دون تعابير دراماتيكية تذكر...لا يخرج أحد من صندوق المرضى وهو ثائر أو يبكي او يلطم او يلقي بنفسه تحت عجلات باص البلد الأبيض والأخضر...هذه المرأة مقيمة في كوخ ديلوكس في صندوق المرضى منذ مئات السنين وهذا الرجل..لا غير معقول ..لماذا تغير الى هذا الحد إنه زميلي من مقاعد الدراسة الإبتدائية (هذا عندما كنت اذهب أصلا) اصبح بشعر أبيض خفيف جدا وبدن هزيل بكرش لا تنتمي ابدا للجسد المعلقة علية ...معصم نحيل ..بنطلون جينز مهتريء قميص "بولو" مزيف لم يغسل منذ دهور..صندل مقشر ..عيون ميتة ..كان لا يغيب ابدا عن المدرسة..يصعد صاحب الصندل الدرج ..لا يبحث عن بائع السمسم والزعتر ...تبتلعه الأبواب الكهربائية...يدخل الناس ويخرجون بلا إجابات ...هذا ما كنت اهرب منه منذ دهر..افتح باب عربتي ..اخرج منها...لقد أصبحت قريبا جدا!!

*ملاحظة: مع نهاية مرحلة المراهقة شخص الأطباء الحالة على انها "حمى البحر الأبيض المتوسط" المعروفة ب-FMF.